تداعيات الوباء العالمي على العولمــــــــــــة (الجزء الأول)
» لقد توقفت الكرة الأرضية عن الدوران » (La terre s’est arrêté de tourner)، مثل فرنسي يأخذ معناه الكلي في ضل تداعيات أزمة الوباء العالمي الذي سببه الفيروس الصيني (كوفيد19) و ألقى بضلاله على كل الأنظمة البشرية في كل النواحي السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية و حتى النفسية منها و تبينت حدود النظام العالمي الحالي و إشكالاته العويصة على البشرية جمعاء. فلقد ضن الإنسان أن لديه التحكم التام بالنظام الطبيعي و أن لديه كامل الوسائل لردع أي خطر يمكنه أن يهدد وجوده و كيانه و نظامه، لكن كل هذا الفكر الذي ولد إبان القرن العشرين مع الثورة الصناعية بدأ يتفكك و بدأ الكائن البشري يفهم أن هناك حدودا لإرادته في التحكم في كل شيء.
في سنوات السبعينات بدأت الأفكار التي تنادي بالخطر المحدق من طرف العديد من العلماء ليدقوا ناقوس الخطر الذي يحدق بالعالم و هذا بسبب التغيرات المناخية التي ستحدثها الأفكار الجامحة التي لا تفكر إلا بمنطق اقتصادي مختصر في كلمة « النمو الاقتصادي » فكانت هذه الأفكار و الأصوات التحذيرية، النواة الأساسية للعديد من الاتفاقيات الدولية و كذلك دافع لميلاد حركات سياسية خضراء تدافع على الحفاظ على الطبيعة و أهمية ذلك على الحياة الإنسانية و تولدت كذلك العديد من المنظمات الغير حكومية لمواكبة هذه المسألة لِتُوضح للرأي العام العالمي أهمية الحفاظ على التوازن البيولوجي على سطح الكرة الأرضية. مع كل هذا بقيت أفكار العولمة و مقوماتها، مسألة متفق عليها و خاصة مسألة الحدود المفتوحة (Oppen borders) و التجارة الحرة، مع محاولة لتقريب وجهات النظر بين النمو الاقتصادي و الحفاظ على البيئة؛ أي إمكانية الحفاظ على الوتيرة الاقتصادية العالمية خاصة تحت تأثير منظمة التجارة العالمية و الرؤية الجديدة الحاملة لفكرة حماية الطبيعة و المحيط في إطار فكرة العالم القرية (The global village).
من هذا المنطلق آمن العديد بهذه الفكرة المتناسقة التي تقوم على أساس المصالحة بين فكرة النمو الاقتصادي العالمي و الحفاظ على الطبيعة التي هي أساس الوجود البشري و هذا ما سمي بالتنمية المستدامة (Sustainable development)، لكن هذه الفكرة الإصلاحيَّة أظهرت فشلها أو بالمعنى الأصح حدودها و ذلك بعدما عرف العالم انفجار ديمغرافي لم يسبق له وجود في تاريخ البشرية أين أصبح لدينا 8 مليار من البشر في عام 2019 و ترجح التقديرات لعلماء الديمغرافية أن يكون 10 مليار من البشر في عام 2050 أي بعد ثلاثون عاما و هذا أكبر نمو ديمغرافي عرفته البشرية منذ التاريخ، ففي 1950 كان هناك 2،5 مليار إنسان ليصبح الرقم في أقل من سبعون سنة ثلاث مرات أكبر مما كان عليه و هنا يستلزم التفكر في حاجيات البشر و زيادة على ذلك تقدم متوسط العمر (La moyenne d’âge) 29،6 بالنسبة للرجال و 31،1 بالنسبة للنساء ليكون الشغل الشاغل لإقتصادات الدول و كذا الهيآت الدولية هو تحسين ظروف سكان المعمورة بأي ثمن. فساهمت بذلك كذلك فكرة مؤشرات التنمية العالمية لتتسابق الدول في توفير كل الظروف و الوسائل الممكنة لتوفير الرفاهية المفرطة لمواطنيها و أحدث هذه المنظومة تنامي ثقافة استهلاكية منقطع النظير و تغلبت فكرة النمو الاقتصادي على فكرة التنمية المستدامة حيث تسجل المرحلة ما بين 2004 و 2030 زيادة عالمية للطلب على الطاقة ب 60% [i] و هذا بدون احتساب كل الطلبات المتزايدة في العديد من المجالات. فلا مفر من تغليب فكرة النمو الاقتصادي على فكرة المحافظة على التوازن الطبيعي لأن نسبة النمو الديمغرافي تستلزم بدون أي نقاش المزيد من مناصب الشغل، المزيد من استهلاك الطاقة، المزيد من طرق المواصلات، المزيد من المصانع لتلبية الحاجيات و الكماليات الاستهلاكية ثم إن السرعة التي تتصاعد بها المنحى الديمغرافي لم يترك أي مجال لكي تتأقلم الإقتصادات لتطور أنظمة أكثر عقلانية و زد على ذلك قوة و حدة الحركات الاجتماعية التي تطالب بظروف أكثر رفاهية للعيش و أصبح مصطلح العيش الكريم مرادفا للرفاهية و الاستهلاك اللاعقلاني للموارد الطبيعية.
لتفسير ما قد تمت الإشارة إليه يجب التدقيق في حسابات المنظمة الغير حكومية غلوبل فوتبرينت نتورك (Global Footprint Network) بقيامها باحتساب ما يسمى بيوم التخطي (Earth Overshoot Day) و الذي يمثل استهلاك البشرية لما يمكن أن تنتجه الأرض في خلال سنة واحدة و توصلت الحسابات إلى أن العام الماضي و بالضبط بتاريخ 29 جويلية 2019 تم فيه استهلاك المعمورة لما يمكن أن تنتجه الأرض من ثروات في عام واحد.[ii]
فالنتيجة هي إذا كارثية، فلم يعد أمام البشرية إلا أن تنصب اهتمامها في رؤية نمطية مغايرة على العولمة التقليدية القائمة على مبدأ التنمية المستدامة، إلى فكرة أكثر فعالية أمام الاستعجال الطارئ الذي يحدق بوجودنا نهائيا و هي فكرة التدني الاقتصادي (La décroissance économique)[iii] و التي أصبحت منظرة من طرف العديد من المفكرين و منهم عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي (Thomas Pikkety) و الذي يذهب إلى أبعد من الرؤية المناخية لتداعيات النمو الاقتصادي حيث يعتبر أن النمو الاقتصادي لم يصبح أداة للرفاهية لسكان المعمورة بل وسيلة لتوسعة هوة عدم المساواة الاجتماعية.[iv] فمن هنا لم يتبقى لرواد الفكر التنموي الكلاسيكي أية حجة يمكن لهم و على أساسها الإبقاء على مفهوم التنمية المستدامة كأداة للربط بين النمو الاقتصادي و الحفاظ على التوازن الطبيعي، فالنمو أصبح من جهة يوسع الهوة بين مختلف الطبقات الاجتماعية و ما سيؤدي إلى العودة للصراعات التي عرفها العالم أواخر القرن 19 و بدايات القرن 20 و يدفع إلى طرق استهلاكية غير عقلانية و من جهة أخرى يؤثر ذلك سلبا على التوازن البيولوجي و الطبيعي و الشيء الذي يمكن أن يحدث كوارث طبيعية، أزمات بيولوجية ذو أثر كارثي.
———————————
إن القارئ للأسطر المقدمة سابقا لربما سيتساءل عن العلاقة بين وباء عالمي له علاقة مباشرة مع علم الفيروسات، الطب و البيولوجية مع كل هذه النقاط التي تدخل في إطار فلسفة الاقتصاد السياسي، التنظيمات البشرية (السوسيولوجية) و النظريات السياسية و الإجابة عن هذا التساؤل يجب أن يكون جدي و من هنا يمكن أن نأخذ أمثلة بسيطة من التاريخ البشري فبسبب سقوط تفاحة اكتشف نيوتن قانون الجاذبية و بسبب زيادة الضريبة على الشاي المستورد من طرف المستوطنين في أمريكا تولدت الفكرة الاستقلالية و تأسست بذلك أقوى دولة في العالم لحد الآن، و بسب عمليات إرهابية ضد برجي التجارة العالمي في نيويورك بتاريخ 11/09/2001 دخل العالم صراع تحالفات جديدة و تم الإعلان عن حرب عالمية طاحنة ضد الإرهاب و تمت غزو العراق و بسبب حرق تاجر خضروات في مدينة لم يسمع بها أحدا من قبل في جنوب الجمهورية التونسية إنهارت أنظمة ديكتاتورية عتيدة و تخيرت جغرافيا العلاقات الدولية. فالأحداث البسيطة تؤدي بنا أحيانا إلى سلسلة من الأحداث لا يمكن تصورها و لعل أبسط مثال يلخص هذه المسألة هو كالتالي « القطرة التي أفاضت الكأس ».
من جهة أخرى يجب أن نعي أنَّه أيا كانت الأزمة التي ستحل بمجتمع معين سيكون لديها أثر على العلاقة التي هذا المجتمع بنظامه السياسي و الاقتصادي سواء بمنظور إيجابي أو سلبي و لقد أشار إلى هذا المفكر و الكاتب الفرنسي جاك أتالي في مقال له حول تداعيات أزمة الكورونا و الذي التقطته العديد من الصحف العالمية أي كتب « يمكن أن نشير إلى أمثلة أخرى و سنرى أنه، كلما حطم وباء معين قارة معينة، تنزع المصداقية عن منظومة المعتقدات و التحكم، التي لم تستطع منع وفاة و هلاك الكثير من الناس؛ لهذا ينتقم الباقون على قيد الحياة من حكامهم و أسيادهم، لإحداث تغيير جذري للعلاقات السلطوية »[v]
———————————
يتبين لنا مما سبق أن لكل أزمة تداعيات و نتائج و بما أن هذه الأزمة عالمية ستتبعها تباعيات لا تقتصر على قارة بعينها و لا على إقليم معين بل على العالم ككل و يعتبر العالم الحالي قائم على مبادئ معينة أشرنا إليها مسبقا في المنظور الاقتصادي، لكن يبقى الشق السياسي ذو أهمية قصوى حيث تتسم العولمة في إطارها التقليدية على مبادئ رسمت أركانها على إثر الحرب العالمية الثانية و بالأخص على إثر مؤتمر بريتون-ودز (Bretton-Woods)[vi] و لإتفاقية هذا المؤتمر أهمية بالغة لأنه و من خلالها تم إعتماد الدولار كوحدة تعامل مالية عالمية رغم أنه كان هناك رأي مخالف للعالم الإقتصادي الشهير جون ماينار كاينز (John Maynard Keynes) الذي إقترح عملة دولية و هي البانكور (Bancor) و هي فكرة أخذها بالأساس من عالم إقتصاد بريطاني ذو أصول ألمانية و هو فريدريك شوماخر ( Friedrich Schumacher) - لكن و بسبب الأوضاع العالمية أنذك تم إعتماد فكرة الأمريكي هاري ديكستر وايت (Harry Dexter Xhite) الذي فرض فركة معايير التبادلات بالذهب (Gold Exchange Standard) و هذا بموافقة 44 ممل لمختلف دول الحلفاء.
لقد كان هذا الملتقى بداية للعالم الجديد و من خلاله تأسس المؤسسات العالمية مثل صندوق النقد الدولي (FMI) و كذلك بنك التنمية العالمية و الذي تحول فيما بعد إلى البنك الدولي و لقد من المنتظر كذلك التأسيس لمنظمة عالمية تعني بالتجارة العالمية لكن بسبب خلافات داخلية لم تعرف هذه المنظمة اليوم لكن لمن يمنع ذلك بعض الدول للتأسيس لإتفاقية التجارة الحرة (GATT) و التي تحولت فيما بعد القاعدة التي تأسست عليها منظمة التجارة العالمية في 1994. هذا يبن أنه عالم جديد سواء في تنظيمه الاقتصادي أو في شقه السياسي مع تغير موازين القوى العالمية و الذي استطاع العيش و التغلب على كل الصعاب لغاية يومنا هذا و هذا و النظام الذي يمكن أن يتغير كليتا.
[vi] Les accords de Bretton Woods le 1er au 22 juillet 1944 aux USA
تداعيات الوباء العالمي على العولمــــــــــــة (الجزء الأول)
» لقد توقفت الكرة الأرضية عن الدوران » (La terre s’est arrêté de tourner)، مثل فرنسي يأخذ معناه الكلي في ضل تداعيات أزمة الوباء العالمي الذي سببه الفيروس الصيني (كوفيد19) و ألقى بضلاله على كل الأنظمة البشرية في كل النواحي السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية و حتى النفسية منها و تبينت حدود النظام العالمي الحالي و إشكالاته العويصة على البشرية جمعاء. فلقد ضن الإنسان أن لديه التحكم التام بالنظام الطبيعي و أن لديه كامل الوسائل لردع أي خطر يمكنه أن يهدد وجوده و كيانه و نظامه، لكن كل هذا الفكر الذي ولد إبان القرن العشرين مع الثورة الصناعية بدأ يتفكك و بدأ الكائن البشري يفهم أن هناك حدودا لإرادته في التحكم في كل شيء.
في سنوات السبعينات بدأت الأفكار التي تنادي بالخطر المحدق من طرف العديد من العلماء ليدقوا ناقوس الخطر الذي يحدق بالعالم و هذا بسبب التغيرات المناخية التي ستحدثها الأفكار الجامحة التي لا تفكر إلا بمنطق اقتصادي مختصر في كلمة « النمو الاقتصادي » فكانت هذه الأفكار و الأصوات التحذيرية، النواة الأساسية للعديد من الاتفاقيات الدولية و كذلك دافع لميلاد حركات سياسية خضراء تدافع على الحفاظ على الطبيعة و أهمية ذلك على الحياة الإنسانية و تولدت كذلك العديد من المنظمات الغير حكومية لمواكبة هذه المسألة لِتُوضح للرأي العام العالمي أهمية الحفاظ على التوازن البيولوجي على سطح الكرة الأرضية. مع كل هذا بقيت أفكار العولمة و مقوماتها، مسألة متفق عليها و خاصة مسألة الحدود المفتوحة (Oppen borders) و التجارة الحرة، مع محاولة لتقريب وجهات النظر بين النمو الاقتصادي و الحفاظ على البيئة؛ أي إمكانية الحفاظ على الوتيرة الاقتصادية العالمية خاصة تحت تأثير منظمة التجارة العالمية و الرؤية الجديدة الحاملة لفكرة حماية الطبيعة و المحيط في إطار فكرة العالم القرية (The global village).
من هذا المنطلق آمن العديد بهذه الفكرة المتناسقة التي تقوم على أساس المصالحة بين فكرة النمو الاقتصادي العالمي و الحفاظ على الطبيعة التي هي أساس الوجود البشري و هذا ما سمي بالتنمية المستدامة (Sustainable development)، لكن هذه الفكرة الإصلاحيَّة أظهرت فشلها أو بالمعنى الأصح حدودها و ذلك بعدما عرف العالم انفجار ديمغرافي لم يسبق له وجود في تاريخ البشرية أين أصبح لدينا 8 مليار من البشر في عام 2019 و ترجح التقديرات لعلماء الديمغرافية أن يكون 10 مليار من البشر في عام 2050 أي بعد ثلاثون عاما و هذا أكبر نمو ديمغرافي عرفته البشرية منذ التاريخ، ففي 1950 كان هناك 2،5 مليار إنسان ليصبح الرقم في أقل من سبعون سنة ثلاث مرات أكبر مما كان عليه و هنا يستلزم التفكر في حاجيات البشر و زيادة على ذلك تقدم متوسط العمر (La moyenne d’âge) 29،6 بالنسبة للرجال و 31،1 بالنسبة للنساء ليكون الشغل الشاغل لإقتصادات الدول و كذا الهيآت الدولية هو تحسين ظروف سكان المعمورة بأي ثمن. فساهمت بذلك كذلك فكرة مؤشرات التنمية العالمية لتتسابق الدول في توفير كل الظروف و الوسائل الممكنة لتوفير الرفاهية المفرطة لمواطنيها و أحدث هذه المنظومة تنامي ثقافة استهلاكية منقطع النظير و تغلبت فكرة النمو الاقتصادي على فكرة التنمية المستدامة حيث تسجل المرحلة ما بين 2004 و 2030 زيادة عالمية للطلب على الطاقة ب 60% [i] و هذا بدون احتساب كل الطلبات المتزايدة في العديد من المجالات. فلا مفر من تغليب فكرة النمو الاقتصادي على فكرة المحافظة على التوازن الطبيعي لأن نسبة النمو الديمغرافي تستلزم بدون أي نقاش المزيد من مناصب الشغل، المزيد من استهلاك الطاقة، المزيد من طرق المواصلات، المزيد من المصانع لتلبية الحاجيات و الكماليات الاستهلاكية ثم إن السرعة التي تتصاعد بها المنحى الديمغرافي لم يترك أي مجال لكي تتأقلم الإقتصادات لتطور أنظمة أكثر عقلانية و زد على ذلك قوة و حدة الحركات الاجتماعية التي تطالب بظروف أكثر رفاهية للعيش و أصبح مصطلح العيش الكريم مرادفا للرفاهية و الاستهلاك اللاعقلاني للموارد الطبيعية.
لتفسير ما قد تمت الإشارة إليه يجب التدقيق في حسابات المنظمة الغير حكومية غلوبل فوتبرينت نتورك (Global Footprint Network) بقيامها باحتساب ما يسمى بيوم التخطي (Earth Overshoot Day) و الذي يمثل استهلاك البشرية لما يمكن أن تنتجه الأرض في خلال سنة واحدة و توصلت الحسابات إلى أن العام الماضي و بالضبط بتاريخ 29 جويلية 2019 تم فيه استهلاك المعمورة لما يمكن أن تنتجه الأرض من ثروات في عام واحد.[ii]
فالنتيجة هي إذا كارثية، فلم يعد أمام البشرية إلا أن تنصب اهتمامها في رؤية نمطية مغايرة على العولمة التقليدية القائمة على مبدأ التنمية المستدامة، إلى فكرة أكثر فعالية أمام الاستعجال الطارئ الذي يحدق بوجودنا نهائيا و هي فكرة التدني الاقتصادي (La décroissance économique)[iii] و التي أصبحت منظرة من طرف العديد من المفكرين و منهم عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي (Thomas Pikkety) و الذي يذهب إلى أبعد من الرؤية المناخية لتداعيات النمو الاقتصادي حيث يعتبر أن النمو الاقتصادي لم يصبح أداة للرفاهية لسكان المعمورة بل وسيلة لتوسعة هوة عدم المساواة الاجتماعية.[iv] فمن هنا لم يتبقى لرواد الفكر التنموي الكلاسيكي أية حجة يمكن لهم و على أساسها الإبقاء على مفهوم التنمية المستدامة كأداة للربط بين النمو الاقتصادي و الحفاظ على التوازن الطبيعي، فالنمو أصبح من جهة يوسع الهوة بين مختلف الطبقات الاجتماعية و ما سيؤدي إلى العودة للصراعات التي عرفها العالم أواخر القرن 19 و بدايات القرن 20 و يدفع إلى طرق استهلاكية غير عقلانية و من جهة أخرى يؤثر ذلك سلبا على التوازن البيولوجي و الطبيعي و الشيء الذي يمكن أن يحدث كوارث طبيعية، أزمات بيولوجية ذو أثر كارثي.
———————————
إن القارئ للأسطر المقدمة سابقا لربما سيتساءل عن العلاقة بين وباء عالمي له علاقة مباشرة مع علم الفيروسات، الطب و البيولوجية مع كل هذه النقاط التي تدخل في إطار فلسفة الاقتصاد السياسي، التنظيمات البشرية (السوسيولوجية) و النظريات السياسية و الإجابة عن هذا التساؤل يجب أن يكون جدي و من هنا يمكن أن نأخذ أمثلة بسيطة من التاريخ البشري فبسبب سقوط تفاحة اكتشف نيوتن قانون الجاذبية و بسبب زيادة الضريبة على الشاي المستورد من طرف المستوطنين في أمريكا تولدت الفكرة الاستقلالية و تأسست بذلك أقوى دولة في العالم لحد الآن، و بسب عمليات إرهابية ضد برجي التجارة العالمي في نيويورك بتاريخ 11/09/2001 دخل العالم صراع تحالفات جديدة و تم الإعلان عن حرب عالمية طاحنة ضد الإرهاب و تمت غزو العراق و بسبب حرق تاجر خضروات في مدينة لم يسمع بها أحدا من قبل في جنوب الجمهورية التونسية إنهارت أنظمة ديكتاتورية عتيدة و تخيرت جغرافيا العلاقات الدولية. فالأحداث البسيطة تؤدي بنا أحيانا إلى سلسلة من الأحداث لا يمكن تصورها و لعل أبسط مثال يلخص هذه المسألة هو كالتالي « القطرة التي أفاضت الكأس ».
من جهة أخرى يجب أن نعي أنَّه أيا كانت الأزمة التي ستحل بمجتمع معين سيكون لديها أثر على العلاقة التي هذا المجتمع بنظامه السياسي و الاقتصادي سواء بمنظور إيجابي أو سلبي و لقد أشار إلى هذا المفكر و الكاتب الفرنسي جاك أتالي في مقال له حول تداعيات أزمة الكورونا و الذي التقطته العديد من الصحف العالمية أي كتب « يمكن أن نشير إلى أمثلة أخرى و سنرى أنه، كلما حطم وباء معين قارة معينة، تنزع المصداقية عن منظومة المعتقدات و التحكم، التي لم تستطع منع وفاة و هلاك الكثير من الناس؛ لهذا ينتقم الباقون على قيد الحياة من حكامهم و أسيادهم، لإحداث تغيير جذري للعلاقات السلطوية »[v]
———————————
يتبين لنا مما سبق أن لكل أزمة تداعيات و نتائج و بما أن هذه الأزمة عالمية ستتبعها تباعيات لا تقتصر على قارة بعينها و لا على إقليم معين بل على العالم ككل و يعتبر العالم الحالي قائم على مبادئ معينة أشرنا إليها مسبقا في المنظور الاقتصادي، لكن يبقى الشق السياسي ذو أهمية قصوى حيث تتسم العولمة في إطارها التقليدية على مبادئ رسمت أركانها على إثر الحرب العالمية الثانية و بالأخص على إثر مؤتمر بريتون-ودز (Bretton-Woods)[vi] و لإتفاقية هذا المؤتمر أهمية بالغة لأنه و من خلالها تم إعتماد الدولار كوحدة تعامل مالية عالمية رغم أنه كان هناك رأي مخالف للعالم الإقتصادي الشهير جون ماينار كاينز (John Maynard Keynes) الذي إقترح عملة دولية و هي البانكور (Bancor) و هي فكرة أخذها بالأساس من عالم إقتصاد بريطاني ذو أصول ألمانية و هو فريدريك شوماخر ( Friedrich Schumacher) - لكن و بسبب الأوضاع العالمية أنذك تم إعتماد فكرة الأمريكي هاري ديكستر وايت (Harry Dexter Xhite) الذي فرض فركة معايير التبادلات بالذهب (Gold Exchange Standard) و هذا بموافقة 44 ممل لمختلف دول الحلفاء.
لقد كان هذا الملتقى بداية للعالم الجديد و من خلاله تأسس المؤسسات العالمية مثل صندوق النقد الدولي (FMI) و كذلك بنك التنمية العالمية و الذي تحول فيما بعد إلى البنك الدولي و لقد من المنتظر كذلك التأسيس لمنظمة عالمية تعني بالتجارة العالمية لكن بسبب خلافات داخلية لم تعرف هذه المنظمة اليوم لكن لمن يمنع ذلك بعض الدول للتأسيس لإتفاقية التجارة الحرة (GATT) و التي تحولت فيما بعد القاعدة التي تأسست عليها منظمة التجارة العالمية في 1994. هذا يبن أنه عالم جديد سواء في تنظيمه الاقتصادي أو في شقه السياسي مع تغير موازين القوى العالمية و الذي استطاع العيش و التغلب على كل الصعاب لغاية يومنا هذا و هذا و النظام الذي يمكن أن يتغير كليتا.
[vi] Les accords de Bretton Woods le 1er au 22 juillet 1944 aux USA